Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 البريطانية رينور وين ترسخ التواطؤ بين الإنسان والطبيعة

 في رواية "الصمت البرّي الجامح" تراهن على العودة إلى الغابة والاشجار والنبات

الروائية البريطانية رينور وين (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

ملخص

في رواية "الصمت البرّي الجامح" تراهن على العودة إلى الغابة والاشجار والنبات

على الرّغم من أنّ الكاتبة البريطانية رينور وين تحافظ على المسافة الفاصلة بين الرواية والسّيرة، فتقدّم المادّة السِّيَريّة في قالَب روائي، في رواية "الصمت البرّي الجامح"، الصادرة  عن المجلس الوطني في الكويت، في سلسلة "إبداعات عالمية"، بتعريب حنان، فإن المسافة بينهما تتضاءل حتى الدرجة صفر، حين يتعلّق الأمر بالعلاقة بين الروائية والراوية، أو بين الشخوص الروائية والشخصيات الحقيقية، أو بين الواقع والخيال. فالرواية هي سيرة الكاتبة وزوجها اللذين يشهران الحياة الطبيعية البرّية في مواجهة الإفلاس والمرض، ويتمكّنان بقوّة الإرادة وفضيلة الصبر، من البقاء على قيد الحياة. وهي تتمّة لـما كانت قد بدأته الكاتبة في "درب الملح" التي تُوثّق فيها رحلة شاقّة مع زوجها المريض روث حول الساحل الانجليزي الغربي، رغم تحذير الأطباء لهما من مغبّة الأمر، فيتماثل هو للشفاء وتتخفّف هي من القلق، في إحالة واضحة إلى أهمية الطبيعية البرية في حياة الإنسان، وفي تعزيز مناعته النفسية والجسدية، تلك التي أضعفها نمط الحياة المعاصرة، إلى حدٍّ كبير. وبهذا المعنى، تشكّل الروايتان / السيرتان دعوة مباشرة إلى العودة للطبيعة والتفاعل مع الأرض.

 

 تبدأ "الصمت البرّي الجامح" من حيث تنتهي "درب الملح"، فتشكّل الإقامة في شقّة مجاورة للكنيسة في بلدة فوي من أعمال بلروان التي انتهى إليها رحالهما في الرواية السابقة، نقطة انطلاق لسلسلة من الأحداث في الرواية الجديدة، ينخرط فيها الزوجان، من موقع الفاعل فيها أو المنفعل بها. وتتمخّض عن شخصية محبّة للحياة، متمسّكة بأهداب الأمل، قوية الإرادة، قادرة على التحمّل، مقيمة على قلق مزمن، رغم ميلها إلى الانطواء في الطفولة والخجل من الآخرين، في حالة رينور، وشخصية ثانية متفاعلة مع الأولى، تواجه المرض، وتتحمّل الألم، وتتجشّم  الأخطار، ولا تتخلّى عن حقها في الحياة، في حالة روث. ناهيك بشخصيات أخرى تتناغم مع هاتين الشخصيتين المحوريتين، مثل الزوجين جولي وريف، رفيقيهما في رحلات المسافات الطويلة، في ظروف مناخية غير مؤاتية. ومن خلال هذه الشخصيات، تقول الرواية / السيرة قدرة الإرادة البشرية على مواجهة التحديات، وأهمّية العودة إلى الطبيعة لتصحيح الاختلالات، النفسية والجسدية، التي أفرزتها الحياة المعاصرة، واستعادة الإنسان توازنه المفقود. وهذه الخلاصات تشي بها الأحداث المتعاقبة في "الصمت البرّي الجامح".

 بالعودة إلى أحداث الرواية، وبعد مدة من الإقامة في بلروان، يتابع فيها روث الدراسة في جامعتها، وتنصرف رينور إلى شؤون أخرى، يعاوده مرض الضمور القشري وتأخذ قدرته على التذكّر بالتناقص، وتستيقظ مخاوفها عليه من جديد، ويزيد الطين بلّة إصابة أمّها التسعينية بالتهاب رئوي تعقبه سكتة دماغية. ويكون على كاتبة الرواية وبطلتها أن تواجه استحقاقين اثنين، متزامنين متعاقبين؛ مرض الأم، من جهة، ومرض الزوج، من جهة ثانية. وتختلف آليات المواجهة التي تعتمدها في كلٍّ منهما.

  مرض الأم والزوج

 في الاستحقاق الأول، يكون على الكاتبة أن تتعايش مع مرض الأم العَصِيّ على الشفاء، تلازمها في المستشفى، تحاول التواصل معها، وتدرك أنها على وشك الرحيل. وإزاء  هذه  الوقائع القاسية، تلجأ رينور إلى آليات دفاع  ثلاث تواجه بها الواقع وتحافظ على توازنها النفسي؛ هي الذاكرة والكتاب والطبيعة؛ تتذكّر طفولتها في المنزل الوالدي، "نصف قرن من الكبت والتحكّم وبرودة المشاعر"، بداية علاقتها بروث ومراحل نمو تلك العلاقة، رحلاتهما المشتركة البرية والنهرية والبحرية، من جهة. تلجأ إلى قراءة كتاب "كوبسفورد" للكاتب والتر جي سي موري الذي يحتفي فيه بالطبيعة، من جهة ثانية. تتسكّع في الغابة المجاورة للمستشفى، فتنام على أوراق الأشجار اليابسة، وتشعر بالأمان، من جهة ثالثة. وهكذا، تواجه  الواقع ووقائعه القاسية بالتذكّر والقراءة والتنزّه، حتى إذا ما ماتت الأم  تتخفّف من عبء الاهتمام بها والقلق عليها.

 في الاستحقاق الثاني، وهو الأهم في الرواية، يكون على رينور أن تتعايش مع القلق، من جديد. ففي ظلّ انتكاسة روث الصحية، بعد مدة من الاستقرار، وتناقص قدرته على التذكّر، وخوفها من فقدانه، تستخدم مجموعة من آليات الدفاع، تتراوح بين الكتابة والعمل والانخراط في رحلة جديدة معه سيراً على الأقدام. وفي هذا السياق، تقوم بكتابة رحلتهما الأولى حول الساحل الانجليزي الغربي التي قطعا فيها 630 ميلاً، وتهديه المخطوط في عيد ميلاده، في محاولة منها لتذكيره بمحطات الرحلة ووقائعها وردم الفجوات التي أحدثها المرض في ذاكرته، من جهة. وتقوم معه بقبول العرض الذي قدّمه لهما سام، بعد أن قرأ كتابها "درب الملح"،  للعناية بمزرعته وإحياء أرضها الموات، وهو عرض يشكّل نقطة تحوّل في مجرى الأحداث، يترتّب عليه انخراط الزوجين في العمل، وتحقيق نتائج متقدّمة في وقت قياسي، تشفى معها الأرض من مرضها، وتعود أشجارها إلى الحياة، ويتماثل روث للشفاء من جديد. وبذلك، يتزامن استصلاح الأرض مع شفاء روث، في إشارة روائية واضحة إلى الارتباط الوثيق بين سلامة البيئة وصحة الإنسان، من جهة ثانية. أمّا الآلية الثالثة التي يلجأ إليها الزوجان في مواجهة المرض فتتمثّل في تحقيق حلمهما القديم في تسلّق جبال أيسلندا، لذلك، ما إن يتلقّيا دعوة من الزوجين جولي وريف، رفيقي الرحلة السابقة، حتى يبادرا إلى تلبيتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتكون رحلة شاقة وممتعة، تتجلّى فيها قوة الإرادة، والرغبة في الحياة، ومواجهة التحديات المختلفة، بالتزامن مع معوقات تتمثّل في مشاعر التعب والتردّد واليأس التي تنتاب الراحلَيْن في لحظات الضعف البشري، غير أن إرادة الحياة كانت أقوى من أي معوقات. وعليه، يستعيد روث خلال هذه الرحلة القدرة على التذكّر، ويقترب من الشفاء من مرضه، من جهة ثالثة. وهكذا، تثبت الآليات الثلاث المستخدمة، الكتابة والعمل والرحلة، نجاعتها في مواجهة المرض، وإطالة أمد الحياة، ولو إلى حين. هذه الخلاصة هي رسالة الرواية / السيرة، في زمن طغت فيه الحياة الاستهلاكية، واستشرت الأمراض، ولم تترك للإنسان فرصة التمتّع بالجمال الطبيعي البرّي الجامح.  

 التعدّد الأجناسي

بالتعريج على الخطاب السردي، يمكن الإشارة إلى أنه يطرح سؤال التعدّد الأجناسي، وانفتاح النوع الروائي على الأنواع الأخرى المختلفة، لا سيما السيرة الذاتية وأدب الرحلة؛ ذلك أن المادة الأولية في "الصمت البرّي الجامح" هي مادة سِيَريّة بامتياز. أمّا تصنيع هذه المادة فيتمّ في مصنع الرواية، بدليل التصرّف الكبير في سرد الأحداث الروائية وفق متطلّبات الفن الروائي، في الاختيار والتقديم والتأخير والحذف والإضمار والإيجاز والإطناب، تبعاً لمقتضى الحال، من جهة، وإطاحة الكاتبة بالزمن الخطي في سرد الأحداث ممّا يتعلّق بالسيرة الذاتية، من جهة ثانية، واستخدامها تقنيات السرد الروائي، من استرجاع واستقدام وتزامن وغيرها، من جهة ثالثة. وبهذا المعنى، نكون في قلب العملية الروائية.        

 في السياق نفسه، يُحيل الوصف التفصيلي للأمكنة، ومحطّات الرحلة المختلفة، والمشاهدات  الطبيعية المتنوّعة، والمقاربة العلمية في وصف النباتات والحيوانات إلى أدب الرحلة، لا سيّما أن الوصف يطغى على السرد في كثير من الوحدات النصية. وبذلك، تجمع رينور وين في كتابها بين السيرة الذاتية والرواية وأدب الرحلة في آن واحد، مما يحقق لها التنوّع الشكلي الذي يشكّل قيمة مضافة إلى الغنى المضموني، ويجعل عملية القراءة محفوفة بفائدة التعرّف إلى القدرات الإنسانية، وفضول الاكتشاف الجغرافي، ومتعة التنقل بين الأجناس المختلفة.     

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة